لا زال حوار جرى بين مجموعة من الاساتذة بإحدى كليات العلوم بفاس يتردد في أذني ، بعد أن دفعني الفضول للمرور بجانبهم ، حتى أتعرف على نوعية الحديث الذي يخوض فيه دكاترة الفيزياء والكمياء وإن كان ذلك تصرف غير مقبول ..لكن ارتفاع أصواتهم وطريقة نقاشهم ، أغرتني لمعرفة الموضوع الذي من أجله مجتمعون بكل تلك الحماسة .
هل يا ترى يناقشون موضوعات فيزيائية ونظريات معقدة ؟ أم ذاك العنصر الذري الذي أضيف رسميا للجدول الدوري هو من شغلهم ؟ لربما شيء علمي اخر لم يصل الى العوام بعد؟
غير أن الذي اكتشفته أذهلني ، وأصابني بصدمة ورغبة في التقيؤ دما بعدما سمعت مقتطفا من حوارهم:
يقول الاول وهو أستاذ للفزياء :
” البقر عطيهم الفول وكرسهم مزيان وشوف داك الساعة شحال غا يجيبولك في السوق” بمعنى اكثر من العلف والفول للبقر وسيرتفع ثمنهم في السوق .
فيجيبه الثاني وهو أستاذ للكمياء
“لفول مالقيناهش حتى حنا ناكلوه ..غادي نشوف ندير لكسيبة ” .. اي ان الفول لم نجده حتى لأنفسنا فما بالك أن نعطيه للبقر، ويقرر استبدال تربية البقر الى الغنم.
فيقاطعه أستاذ آخر لليفزياء مستهزءا
“حتى نتا غي مضيع داك لفيرمة..كون غي درتي فيها لحلوف… ” ويقصد ان الضيعة ستكون ذات نفع أكثر إن استبدل البقر بالخنزير.
فتركتهم في الحال بعد أن ضاق صدري لهول ماسمعت.
أحقا هذا حال الطبقة المثقفة بالمغرب ؟ أهؤلاء هم قادة التنوير في بلادنا ؟ وللاشارة لم يكن الذي سمعته مجرد صدفة أو ممنوع للنقاش بين الطبقة المثقفة …لكن الذي هو معروف ، أن كل أستاذ من تلك المجموعة و آخرون لهم مهن ثانية بعد مهنة التعليم ..فهناك “مربي الاغنام” وهو معروف وسط الطلاب ، وهناك “الطاشرون” وهناك “ممون الحفلات” والكثير الكثير ممن يمتهنون مهن أخرى غير التعليم “اللهم لا حسد ” وليس هذا هو موضوعنا .
لكن الذي يحز في القلب هو، أين دور الاستاذ كعالم ؟كباحث ؟ كمثقف ؟…أليس من الأجدر أن يناقش موضوعاته التجارية خارج أسوار الجامعة ويترك هذا المكان للنقاشات العلمية والثقافية …؟ أهؤلاء هم من سيزرعون في الشباب حب العلم والبحث والمعرفة ؟ أم أنهم هم من يزرعون فيهم حب “الدرهم” ؟
إن التخلف الفكري والمعرفي والثقافي وحتى السياسي ، ليس راجع الى الأنظمة الإستبدادية في بلداننا العربية فقط وإن كانوا يتحملون الجزء الاكبر ..لكن أمثال هؤلاء يكرسون حب الأنا ومن بعدي الطوفان يكرسون فكرة “لقرايا باش تجيب لفلوس ” وليس للمعرفة ..هؤلاء وأمثالهم، بانشغالهم وانهماكهم في حساب أموالهم وضيعاتهم قد خانوا الامانة الملقاة على عاتقهم ، وهي انارة الشعب بالعلم طالما أنهم يتبجحون بمكانتهم العلمية ..
لكن لا نستغرب ما دمنا نجد أن جل المثقفين أو عفوا أشباه المثقفين ببلادنا لا يهمهم سوى أنفسهم وذويهم ..فالفنان عندنا أصبح متسولا يتسول الاوسمة والمكرمات من أصحاب المكرووومات …والكاتب أبين من سبحان وائل في مدح الأسياد وأعيى من باقل في وصف حال الشعب ، أما الشاعر فهو “وطني جدا ” والمناضل يبقى مناضلا حتى تتاح له فرصة الاكل من الكعكة ، وما أكثرهم …
باستثناء الشرفاء وهم يعدون على رؤوس الاصابع ،وفي كل المجالات حتى لا أجحف في حقهم ،وهم قلة قليلة ممن لازالوا يتحملون المسؤولية الوجودية لهم بكل أمانة وأخلاق.
وأولئك هم من يؤثرون في نمو وتطور ومعرفة المجتمع كما قال عالم الاجتماع النظري “هيربرت سنبسر” أن التطور والتقدم تشترط فيه عدة عوامل ومن أبرزها ، “الاخلاق والامانة في المسؤولية” ، فبصلاحهما يصلح المجتمع وأفراده ، وبفسادهما يفسد المجتمع وينصرف أهله للهدم بدل البناء .